📁 آخر المقالات

أستاذ، ما فائدة هذا الدرس؟" – الكنز الخفي وراء الدروس التي تبدو مملة

في مساء يوم حار، وأنا أقف أمام قسم مكتظ بأكثر من 42 تلميذًا في السنة الثالثة متوسط، شعرت بثقل اللحظة. لم يكن الثقل ناتجًا عن حرارة الجو أو إرهاق نهاية اليوم فقط، بل كان مصدره تلك النظرات الزجاجية والأسئلة الصامتة التي تدور في أعينهم. كنا في الدرس الأول للجغرافيا، والموضوع كان "قارة أوقيانوسيا".

بينما كنت أشير إلى تضاريسها المعقدة على الخريطة، رأيت الملل يتسلل إلى وجوههم بوضوح. شعرت بسؤالهم الجماعي يخترق الهواء: "ماذا يهمني في معرفة جبال وغابات قارة تبعد عنا آلاف الكيلومترات؟ ما فائدة هذه المعلومات التي قد أنساها بعد الامتحان مباشرة؟".

كان سؤالهم مشروعًا تمامًا. في تلك اللحظة، أدركت أن الاستمرار في شرح الدرس بالطريقة التقليدية سيكون مضيعة للوقت والجهد. فتوقفت، ونظرت إليهم مباشرة، وقلت بهدوء: "أنا أعلم أنكم مرهقون، وأعلم أنكم تتساءلون عن جدوى كل هذا. اسمحوا لي أن أوضح لكم شيئًا مهمًا".

هذا الموقف الذي عشته اليوم ليس حدثًا عابرًا، بل هو خلاصة لأكثر من 22 عامًا قضيتها في أقسام التدريس. رأيت خلالها آلاف النظرات الحائرة مثل نظرات تلاميذي، وفهمت مع الوقت أن الفجوة الحقيقية ليست في صعوبة المناهج، بل في غياب الوعي بالهدف الخفي من وراء كل درس.

الدرس الحقيقي ليس المعلومة، بل المهارة

فكرة التعلم كوسيلة لبناء المهارات وليس لحفظ المعلومات

قلت لهم: "نحن هنا لا نتعلم لنعرف اسم كل هضبة في أستراليا. هذا ليس الهدف النهائي. فكروا في هذا الدرس وكأنه تمرين في صالة ألعاب رياضية، لكنها صالة رياضية لعقولكم".

وهذا هو جوهر الأمر الذي نغفل عنه غالبًا كأساتذة وتلاميذ. إن قيمة التعليم لا تكمن دائمًا في "ماذا" نتعلم، بل في "كيف" يؤثر التعلم على طريقة تفكيرنا. كل درس، بغض النظر عن محتواه، هو فرصة مصممة بعناية لتدريب مهارة ذهنية محددة.

  • درس الجغرافيا وقراءة الخرائط: هو ليس لحفظ المواقع، بل لتدريبك على التفكير المكاني، ومهارة استخراج البيانات من مصادر بصرية معقدة. هذه المهارة ستستخدمها لاحقًا في فهم الرسوم البيانية في تقرير عمل، أو حتى في تجميع أثاث جديد باتباع دليل التعليمات.
  • درس التاريخ وتحليل النصوص: هو ليس لتكديس التواريخ والأسماء، بل لتدريبك على التحليل النقدي، والقدرة على تقييم المصادر المختلفة، وفهم علاقات السبب والنتيجة. هذه المهارة هي خط دفاعك الأول ضد الأخبار الكاذبة والتضليل الإعلامي.
  • درس الرياضيات وحل المسائل: هو ليس فقط لإيجاد قيمة "س"، بل لتدريبك على التفكير المنطقي والمنهجي، وتقسيم المشاكل الكبيرة إلى خطوات صغيرة قابلة للحل. هذه هي بالضبط المهارة التي تحتاجها لإدارة ميزانيتك الشخصية أو التخطيط لمشروع معقد.

من الحفظ إلى البناء: تحويل عقلك إلى أداة قوية

تخيل أن عقلك مثل قطعة من الصلصال. كل معلومة تحفظها وتكررها تترك أثرًا بسيطًا عليه. لكن عندما تتفاعل مع المعلومة — تحللها، تنقدها، تربطها بما تعرفه سابقًا، وتستخدمها لحل مشكلة — فأنت لا تترك أثرًا، بل تعيد تشكيل قطعة الصلصال نفسها، وتجعلها أقوى وأكثر مرونة.

هذه المهارات التي تبنيها بصمت خلف كواليس الدروس تُسمى "المهارات القابلة للنقل" (Transferable Skills). إنها الكنز الحقيقي الذي تأخذه معك من رحلتك التعليمية. قد تنسى تفاصيل الثورة الجزائرية، لكنك لن تنسى كيف تحلل أسبابها ونتائجها. قد تنسى الصيغة الكيميائية لمركب ما، لكنك لن تنسى كيف تتبع منهجًا علميًا في التفكير.

في عالم التربية والعمل الحديث، يُطلق على هذا الكنز اسم "المهارات الناعمة" (Soft Skills) أو "الكفاءات المستعرضة" (Transversal Competencies). هي ليست مهارات مرتبطة بمادة دراسية واحدة، بل هي كفاءات تعبر كل المواد وكل مجالات الحياة: قدرتك على التواصل بوضوح، والعمل ضمن فريق، وحل المشكلات غير المتوقعة، والتفكير بشكل نقدي ومبدع. هذه المهارات هي العملة الحقيقية في سوق العمل اليوم، وهي ما يميز الشخص الناجح عن مجرد حافظ للمعلومات. وفي مقالنا القادم، سنتعمق أكثر في استكشاف أهم هذه المهارات وكيفية تطويرها بالتفصيل

دليلك العملي لتحويل كل درس إلى فرصة لبناء المهارات

للتلاميذ: كن محققًا في غرفة الصف

في المرة القادمة التي تشعر فيها بالملل، جرب هذه الاستراتيجية:

  • اسأل نفسك: "ما المهارة الخفية التي يدربني عليها هذا الدرس؟" (هل هي التحليل، المقارنة، الاستنتاج، أم ربط الأفكار؟).
  • غيّر طريقة التلخيص: بدلًا من نسخ المعلومات، حاول رسم خريطة ذهنية تربط بين الأفكار الرئيسية. هذا يدرب عقلك على التنظيم والربط.
  • تحدَّ الأستاذ (باحترام): اسأل سؤالًا يبدأ بـ "ماذا لو...؟". مثلًا: "ماذا لو كانت تضاريس هذه القارة مختلفة؟ كيف كان سيؤثر ذلك على مناخها؟". هذا يحولك من مستهلك للمعلومة إلى متفاعل معها.

لأولياء الأمور: غيّر طبيعة الحوار في المنزل

الحوار اليومي له أثر السحر. بدلًا من سؤال "ماذا درست اليوم؟"، جرب هذه الأسئلة:

  • "ما هو أصعب شيء فكرت فيه اليوم في المدرسة؟ وكيف تعاملت معه؟"
  • "هل هناك درس شعرت أنه بلا فائدة؟ لِنبحث معًا عن المهارة التي يختبئ وراءها."
  • "احكِ لي عن مشكلة واجهتك اليوم (ليست بالضرورة دراسية) وكيف قمت بحلها."

رسالة إلى كل تلميذ وكل أستاذ

إلى التلميذ: غيّر سؤالك يتغير عالمك

في المرة القادمة التي تشعر فيها بالملل أو الإحباط من درس معين، لا تسأل "ما فائدة هذا؟". بدلًا من ذلك، اسأل نفسك: "أي عضلة في عقلي يقوم هذا الدرس بتمرينها الآن؟". هذا السؤال البسيط سيغير نظرتك تمامًا. سيحولك من متلقٍ سلبي للمعلومات إلى مشارك نشط في بناء قدراتك الذهنية. عندها، يصبح كل درس، مهما كان صعبًا، فرصة للنمو وليس مجرد واجب يجب إنهاؤه.

إلى الأستاذ: مهمتنا هي كشف المعنى

أما نحن الأساتذة، فمهمتنا تتجاوز تقديم المنهاج. تقع على عاتقنا مسؤولية إضاءة هذا "الجانب الخفي" من التعلم. في خضم ضغط الوقت وكثافة البرامج، يجب أن نتوقف للحظات، تمامًا كما فعلت في ذلك اليوم، لنقول لتلاميذنا: "أنا أعرف ما تشعرون به، وإليكم السبب الحقيقي وراء قيامنا بهذا". هذه اللحظات من الصدق والشفافية تبني جسورًا من الثقة، وتعيد الشغف إلى أعينهم، وتمنح رسالتنا التعليمية عمقًا ومعنى حقيقيًا.

أسئلة شائعة حول التعلم الهادف

س: هل هذا يعني أن الحفظ غير مهم على الإطلاق؟

ج: لا، الحفظ هو المرحلة الأولى والأساس الذي تُبنى عليه المهارات العليا. لكن المشكلة تكمن في التوقف عنده. يجب أن نستخدم ما حفظناه كمادة خام للتحليل والنقد والإبداع.

س: ابني في المرحلة الابتدائية، هل هذه الأفكار مناسبة له؟

ج: بالتأكيد. يمكن تبسيط الفكرة له من خلال الألعاب. مثلًا، عند بناء المكعبات، هو لا يتعلم فقط عن الألوان والأشكال، بل يطور مهارات التخطيط، وحل المشكلات (عندما ينهار البرج)، والتفكير الهندسي الأولي.

س: كأستاذ، كيف أطبق هذا في قسم مكتظ وبمنهاج دراسي طويل؟

ج: لا يتطلب الأمر إعادة هيكلة كاملة للدرس. يكفي تخصيص دقيقتين في بداية الحصة أو نهايتها لطرح سؤال: "يا جماعة، ما هي المهارة العقلية التي قمنا بتمرينها اليوم؟". هذا التذكير البسيط يغير الوعي الجماعي للقسم بأكمله.


في نهاية حصة الجغرافيا تلك، لم تختفِ علامات الإرهاق من وجوه التلاميذ تمامًا، لكن شيئًا ما قد تغير. رأيت بعضهم يعودون إلى الخريطة بنظرة مختلفة، نظرة من يحاول حل لغز وليس فقط حفظ حقيقة. لقد فهموا أنهم لا يدرسون أوقيانوسيا، بل يتعلمون كيف يفكرون. وهذا، في نهاية المطاف، هو أعظم درس على الإطلاق.

محمد بوداني
محمد بوداني
أستاذ متخصص في التاريخ والجغرافيا بخبرة تزيد عن 22 عامًا في ميدان التعليم. مؤلف كتاب "مصباح: أضئ عقلك وحول التعلم إلى مغامرة"، ومؤسس مدونة Taalim Hub ومجتمع مصباح. شغفي هو تبسيط العلوم وجعل التعلم رحلة ممتعة وملهمة. أشارك هنا استراتيجيات عملية وتقنيات حديثة لمساعدة الطلاب وأولياء أمورهم على تحقيق النجاح الدراسي وبناء مستقبل مشرق.
تعليقات