في إحدى مجالس الأقسام، كنت جالسًا أتابع النقاش حول نتائج الطلاب، ولأوّل وهلة ظننت أنّنا سنناقش سبل رفع مستوى التلاميذ في مختلف المواد. لكني فوجئت بتعليق من إحدى الاستاذات، رغم خبرتها الطويلة في التدريس، حين قالت بصراحة: "مادة الاجتماعيات لا فائدة منها، كلّها حفظ، والميزة الأساسية التي أراها فيها هي سهولة الغش!" شعرتُ بالدهشة والخيبة في آنٍ معًا، فهل يُعقل حصر مادة محورية كهذه في مجرد حفظ وغش؟
أثار هذا الموقف في نفسي تساؤلات عميقة حول سبب النظرة السلبية التي
تُصنّف الاجتماعيات على أنها مادة ثانوية أو بلا جدوى. فأنا على يقين بأنّ وراء
دروس التاريخ والجغرافيا والتربية المدنية عالمًا مثيرًا للاهتمام يفيد الطالب في
تفهّم ماضيه، وإدراك حاضره، والتخطيط لمستقبله. من هنا، بدأتُ أستعيد تجاربي مع
الطلاب، تلك اللحظات التي رأيتُ فيها الحماسة في عيونهم وهم يكتشفون حقائق عن
الحضارات القديمة، أو يتناقشون بإيجابية حول كيفية حِفظ البيئة، أو يعبّرون عن
آرائهم بحرية في قضايا ذات صلة بالمواطنة. كلّ هذه المواقف رسّخت لدي قناعة بأنّ
هذه المادة أكثر من مجرد نظريات ومعلومات—إنها ركيزة مهمّة في بناء وجدان الطلاب
وشخصيتهم المواطِنة.
• بناء
الوعي الثقافي: تساعد دراسة التاريخ،
مثلًا، على فهم جذورنا، إذ نكتشف إنجازات الأجداد وكيفية تعايشهم مع التحديات. إنه
نوع من الغوص في الهوية الوطنية، ما يعزّز شعور الانتماء وينمّي روح الاعتزاز
بالتراث.
• تعرّف البيئة ومواردها: الجغرافيا تُقدّم إجابة
للسؤال: ماذا يوجد حولنا؟ كيف نستغل الموارد الطبيعية بطريقة مسؤولة؟ كيف نُسهم في
استدامة البيئة؟ هذه المحاور تفيدنا في اتخاذ قرارات رشيدة على المستوى الشخصي
والمجتمعي.
• تعزيز قيم المواطنة: بواسطة التربية المدنية،
يُدرك الطالب دوره كمواطن في المجتمع، ويكتسب وعيًا بالحقوق والواجبات والأطر
القانونية التي تنظم شؤونه وعلاقته بالآخرين.
التحديات الراهنة: تهميش مادة الاجتماعيات
لا بدّ من الاعتراف بأن مادة الاجتماعيات لا تحظى دومًا بالمكانة التي
تستحقها، إذ تلاحِظُ اهتمامًا أغلبُه منصبٌّ على المواد العلمية بحجة أنّها تمهّد
لمستقبل أكاديمي عمليّ أكثر. من واقع تواصلي مع بعض المعلمين، لاحظتُ مشاكل
ملموسة، أبرزها:
حجم ساعي محدود: يصعب فيه التطرق لكل الموضوعات المفيدة أو إجراء
أنشطة تفاعلية.
مناهج تقليدية: ترتكز في بعض الأحيان على الحشو والمعلومات
النظرية، بدلًا من تنمية مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب. وتتكدس
المعلومات في الكتب بطريقة قد تبدو مملة للطالب، فتفقد المادة أهميتها العملية
والإبداعية.
نظرة المجتمع: ما زال هناك من يعتقد أنّ المادة سهلة، أو يمكن
التغاضي عن دراستها، أو حتى "الغش" فيها بلا ضرر، كما قالت تلك المعلمة
في مجلس الأقسام.
تفضيل المواد العلمية: تنتشر قناعة لدى البعض بأن العلوم
والرياضيات هي الأهم، فيؤدي هذا التركيز المفرط إلى إهمال الاجتماعيات
تجربتي الشخصية في تدريس الاجتماعيات
حين بدأت تدريس هذه المادة، نصحني أحد الموجهين المخضرمين بقوله:
"لا تجعل الدرس سيرةً للأحداث فحسب، بل حوّل كل معلومةٍ إلى تجربة حية أقرب
للحاضر." وقد جرّبت ذلك فعلًا:
• في درس عن تاريخ الفتوحات الإسلامية، قمت بتنظيم نقاشٍ تفاعلي يسأل
الطلاب عن الدروس الأخلاقية والاجتماعية التي يمكننا الاستفادة منها اليوم.
• عند شرح خريطة وطننا، طلبتُ من التلاميذ إعداد بحثٍ جماعي عن تضاريس
منطقتهم ومورادها الاقتصادية، وكيف تختلف عن مناطق أخرى، فلاحظتُ شغفهم وهم
يكتشفون معلومات جديدة عن بيئتهم المحلية.
كيف نعيد الأمور إلى نصابها؟
• توسيع
وقت الحصة: إنّ ترك مساحة زمنية أكبر يجعلك قادرًا على اعتماد أنشطة تفاعلية
ونقاشات عميقة بدل الاكتفاء بسردٍ روتيني للمعلومات.
• تحديث المحتوى: إضفاء المزيد من المرح
والتشويق على الدروس عبر استخدام القصص، والأمثلة الواقعية، ومقاطع الفيديو، فذلك
يحفّز عقل الطالب ويجعله يعيش المعلومة بدلًا من حفظها فقط.
• تعزيز حضور المادة مجتمعيًا: يمكن للمدارس إقامة فعاليات ثقافية أو رحلات ميدانية تُعزّز فهم الطلاب
لتاريخهم وبيئتهم وقوانين بلدهم.
• تشجيع المعلمين ودعمهم: الأستاذ حاسمٌ في العملية
التعليمية، لذا لا بدّ من تدريبه باستمرار على أساليب حديثة تدمج التكنولوجيا في
التعليم وتنمّي ميول الطلاب للقراءة والاكتشاف.
الدعوة للتغيير
لا يمكن بناء
جيلٍ واعٍ وقادرٍ على مواجهة التحديات دون فهم ماضيه، وإدراك بيئته، وتعميق وعيه
بالمبادئ المدنية. ونظرًا إلى التجارب التي نعيشها يومًا بعد يوم مع طلابنا، أؤمن
بأن هذه المادة هي العمود الفقري الذي يغرس في نفوسهم حب الوطن والوعي البيئي
والاجتماعي والالتزام بالقيم. إن اختزال هذه المادة بشعار "مجرّد حفظ
وغش" ظلمٌ كبيرٌ لهذه المنظومة التعليمية برمّتها، وهو ما علينا تصحيحه من
خلال تعزيز الوعي والثقة بأهميتها.
مادّة
الاجتماعيات هي جسر يصلنا بماضينا ويُضيء طريق مستقبلنا. ورغم اختلاف وجهات النظر
حولها، يظل الرهان الأكبر هو ضمان أن يتعلّمها أبناؤنا بطرق حيوية وملهمة، تخرج عن
أطر الحفظ المجرد، لتلامس الواقع وتنوّر الأذهان وتُصنع بها أجيال مسؤولة. فلنعطِ
الاجتماعيات حقّها، ولنثبت للجميع أنها لبنة أساسية في صرح التعليم.
كمجتمع، نتحمّل مسؤولية جماعية في إعادة الاعتبار لمادة الاجتماعيات،
فهي المفتاح الذي يربط ماضينا بحاضرنا، ويُوجِّه بوصلتنا نحو المستقبل. لنطرح
الأسئلة الضرورية: كيف نكون مواطنين صالحين من دون تربية مدنية واعية؟ وكيف نفهم
التحديات البيئية والاقتصادية من دون جغرافيا تحليلية؟ وكيف نتجنّب تكرار الأخطاء
التاريخية من دون معرفة الماضي والتمعّن في دروسه؟
إن استعادة مكانة هذه المادة والارتقاء بها هو استثمار في بناء أجيال
أقدر على صنع القرار، وعلى تفهّم قضايا مجتمعهم بانفتاح ووعي. ومن هنا تأتي دعوتي
لكلّ أولياء الأمور والمعلّمين والمسؤولين عن المناهج التعليمية: فلننشر الوعي حول
أهميّة هذه المادة، ونُهيِّئ لأطفالنا بيئة تعليمية تحترم الاجتماعيات وتعطيها
حقّها من الاهتمام والإبداع. بذلك فقط، سنخلق روحًا وطنية ومواطنة حقيقية، مبنية
على أساسٍ معرفيٍّ متين وقيمٍ إنسانيةٍ راقية.