جدول المحتويات
لماذا التعلّم النشط في درس التربية المدنية؟
هل سبق لك أن شعرت بالحيرة أمام صف يعجّ بالتلاميذ الذين ينصتون على مضض، وكأنهم مجبرون على الإنصات لا راغبون فيه؟! لا شك أنك—بوصفك أستاذًا في المرحلة المتوسطة—تطمح لجعل تلاميذك في حالة من الاندماج الحيوي والتفاعل المتواصل. في الحقيقة، نرغب جميعًا في رؤية حماسة واضطرام العقول الطلابية أثناء الدروس، ولا سيما في مواضيع حساسة ومهمة كالتربية المدنية.
أنا شخصيًا خضتُ تجربة رائعة في درس حول النظام الداخلي للقسم، والذي اعتمدتُ فيه على التعلّم النشط والتعليم المرتكز على التلميذ. يا لها من مفاجأة عندما اكتشفتُ كيف يمكن لطريقة بسيطة وغير تقليدية أن تحوّل دفة الدرس من الملل إلى الحركة، ومن الرتابة إلى الابتكار! فما الذي جرى تحديدًا، وكيف قد يفيد هذا الأمر في تحسين النتائج الدراسية؟ سنستعرض في هذا المقال كل صغيرة وكبيرة، وصولًا إلى خطوات عملية تمكّنك من جعل طلابك شركاء حقيقيين في عملية التعلّم.
لعل من المهم أولًا الإشارة إلى أن التعلّم النشط التعاوني مع التفكير النقدي لا يقتصر على مجرد تكوين مجموعات عمل صغيرة أو طرح أسئلة تحفيزية، بل يمتد ليشمل قدرة الأستاذ على تشجيع الطلاب على ابتكار أفكارهم وطرح تصوّرات جديدة وتقييم اقتراحاتهم، ثم تحويلها إلى خطوات قابلة للتطبيق داخل الصف. وقد أظهرت دراسات تربوية عديدة (على غرار بحوث جون ديوي وجان بياجيه) أَن إشراك التلميذ في صياغة القواعد وتنظيم مسار التعلم ينعكس إيجابًا على قدراته الذاتية والثقة بنفسه.
المفاهيم الأساسية للتعليم المرتكز على التلميذ
لو كنّا بصدد جلسة حوارية عفوية بين أساتذة التعليم المتوسط، سألتقط قلمًا بسرعة وأكتب على اللوح المصطلحات الآتية: التعلّم النشط، التفكير النقدي والإبداعي، التعلّم بالمشاركة، التعلّم القائم على حل المشكلات، والتعلّم من خلال الاستقصاء. لماذا كل هذا الحشد من المفاهيم؟ لأن انجاح درس “النظام الداخلي” (أو أي درس آخر) يستند إلى هذه الركائز الدراسية الحديثة.
“ما الذي يميز هذه الاستراتيجيات التعليمية ويتجاوز الطرق التقليدية؟” ربما تسأل نفسك الآن. حسنًا، التعلّم النشط يتطلب من التلميذ أن يُغادر مقعد المتلقي السلبي ليصير فاعلًا في صنع سؤال الدرس بل وحتى صياغة الأجوبة. أما التعليم المرتكز على التلميذ فيحفظ له مساحة حرّة للتساؤل والتعبير واكتشاف ذاته. يُضاف إلى ذلك التفكير النقدي والإبداعي، الذي يعلّمه التمييز بين الفكرة القابلة للتحقيق والفكرة العفوية غير القابلة للتطبيق—فيبدأ بذلك بفلترة الأفكار قبل أن يشاركها الجماعة.
الطريقة العملية: خطوة بخطوة
دعني آخذك في جولة تفصيلية عبر الدرس الذي طبّقته شخصيًا أمام تلاميذي، بدأتُ حصتي بمراجعة سريعة للدرس السابق حول النظام الداخلي للمؤسسة التربوية، موضّحًا لتلاميذي أن تلك القواعد التنظيمية وإن كانت شاملة، تظلّ في كثير من الأحيان عامة وغير تفصيلية. بعد ذلك، أخبرتهم أن الطالب يقضي معظم وقته داخل القسم، وهذا يحفّزنا للتفكير في نظام داخلي خاص بالقسم ذاته. قد يبدو الأمر مجرّد امتداد للوائح الأساسية، لكني أوضحتُ لهم أن وضع قواعد تفصيلية يخلق بيئة أكثر تنظيماً ويتلاءم مع احتياجاتهم الفعلية. وفي تلك اللحظة، قدحتْ في رأسي فكرة جعل التلاميذ أنفسهم يساهمون بإعداد قواعد واضحة ومحدّدة—فهم، قبل أي أحد آخر، الأكثر إدراكًا لما ينقصهم أو يحتاجونه في حيزهم اليومي. ومن هنا، قدمتُ مفهوم “النظام الداخلي للقسم” وطلبتُ منهم الاعتماد على وثيقة النظام الداخلي للمؤسسة كمرجع، لصياغة بنود النظام الداخلي للقسم.
وبالفعل، بدأ بعض التلاميذ—بمبادرة فردية—في كتابة واجبات وحقوق متعارف عليها، مثل الالتزام بالهدوء واحترام الأستاذ، بينما اختار آخرون التزام الصمت تمامًا، وكأن هذه المهمة تفوق توقعاتهم أو لا تهمّهم.
لم أستسلم لذلك؛ فأعطيتهم حرية تامة لصياغة بنودًا يراها أساسية. ومن المدهش أن هذه الدعوة للابتكار دفعت الجميع للانسجام والمشاركة بطُرق تحمل الكثير من الحماسة وأحيانًا الطرافة.انبهرتُ بالاقتراحات خارج المألوف:
- أحدهم كتب حقًّا “في تناول وجبة خفيفة متى شعر بالجوع”، متسائلًا إن كان ذلك فعليًا يساعده على التركيز.
- آخر اقترح “الحق في النوم خلال الحصة” إذا استنفد طاقته! مما أضحك زملاءه كثيرًا.
- وضع تلميذ ثالث حقًّا متعلقًا “بإعادة ترتيب الطاولات بحرية كل أسبوع” لتجديد طاقة العمل الجماعي.
- هناك من ذكر حق التلميذ في لعب كرة القدم في القسم!
يا سلام، لقد كانت أفكارًا مجنونة وممتعة أحيانًا، رغم ما بدا في بعض المقترحات من مبالغة—أو لِنقُل طرافة—وجدتُ نفسي متحمسًا لتوظيف هذه الحماسة في خدمة التعلم النشط. سألتهم: “هل يمكن أن يساعدكم هذا في تحسين نتائجكم الدراسية؟” وهل هو حقًّا ممكن التطبيق في القسم؟ طلبتُ من كل تلميذ أن يطرح تلك الأسئلة على نفسه كلما خطرت له فكرة لحق أو واجب، وهو ما جعل الأطفال يجرون فلترة واعية لمقترحاتهم، بعيدًا عن العشوائية. وهنا رأيت كيف يتجسد التعليم المرتكز على التلميذ في أبسط صوره: توجيه الأسئلة المناسبة في اللحظة المناسبة يكفي لإيقاظ ملكة النقد والحكم الذاتي لدى التلاميذ.
لاحظت انغماسهم في جانب “الحقوق” دون اكتراث يُذكر للواجبات. و هنا جاء دوري كموجه للعملية التعليمية التعلمية لأُبيِّن أهمية التوازن بين الجانبين، أوضحتُ لهم أن الحقوق لا تكون ذات معنى إذا لم يقابلها قدرٌ من المسؤوليات. عندها دعوتهم تحديد واجبات واضحة، تُبرز حرصهم على الانضباط وتحمُّل المسؤولية حيال أنفسهم وزملائهم، ليكتمل المشهد التربوي بجناحيه: الحق والواجب.
لكن هُنا تكمن روعة التعلّم بالمشاركة: فالطالب يشعر أنه شريك في الصياغة، وليس مجرد منفّذ.
ومن هذه المنطلقات العجيبة—التي قد تبدو مضحكة للوهلة الأولى—بدأ تلاميذي يبتكرون قواعد جديدة للنظام الداخلي.
- أولًا: كتب كل طالب "حقًا" من ابتكاره مع توضيح دوافعه.
- ثانيًا: ناقشوا الأسباب المقنعة لتأييد هذا الحق أو رفضه.
- ثالثًا: تساءلوا معًا: "هل هذا البند يساعد في تحسين النتائج الدراسية حقًا؟"
- رابعًا: ناقشوا كيفية تحويل الفكرة إلى قاعدة قابلة للتطبيق اليومي.
خلال هذه العملية، مارس طلابي التفكير النقدي والإبداعي؛ فهم لا يطرحون مجرد رغبات شخصية، بل يحاولون استكشاف جدواها ومدى فائدتها. ولعلك تسأل: "هل ينضبط هذا الأسلوب مع خطّة الدرس الزمنية ومعايير عملية التعليم؟" وأجيبك: أي نعم، فهو لا يتنافى بالمطلق مع أي إطار تربوي؛ بل بالعكس، إنه يجعل الطالب مطّلعًا على روح النظام الداخلي من زوايا جديدة تُحسّن علاقته مع القانون وتُكسبه انضباطًا ذاتيًا.
تصوّر معي ذلك المشهد المبهر: تلميذة ترفع يدها بحماسة (وقد احتدمت النقاشات داخل المجموعات)، فتقول: "أريد أن نخصص فقرة صباحية للترحيب بزملائنا الجدد كل أسبوع!"، فيبتسم زميل لها ويضيف: "لكن هل هذا يساعدنا على التركيز في الحصة الأولى؟" وتجيب فاطمة: "ربما! فنحن سنكون أكثر سعادة ونشعر بالتضامن." يا لها من حيوية! هنا بالضبط تتجلى قيمة التعلّم من خلال الاستقصاء، حيث يقوم الطالب بطرح الأسئلة وإيجاد التبريرات المناسبة قبل اتخاذ موقف محدد.
أذكر أن أحد الطلاب قال: "أستاذ، أرغب في التحدّث عن حقنا في المشاورة قبل اتخاذ أي عقوبة." لقد فاجأني بالمنطق الذي يستند إليه، وشرحه ببراعة قائلاً: "إن عَدْل المؤسسة يكمن في تداول الآراء وإنصاف الجميع قبل تقرير العقوبة." فبادرتُه بسؤال: "وهل ترى أن مساحة الحرية تلك تضمَن احترام النظام الداخلي، أم أنها قد تؤدي للتمادي؟" أجاب بنبرة الزهو: "لو تأكدنا أن الهدف هو الإصلاح لا العقاب، سيفهم التلميذ قواعد المدرسة أكثر، ويلتزم بالمبادئ دون خوف." هذا النقاش الفكري يربط بين التعليم المرتكز على التلميذ والتفكير النقدي؛ إذ يأخذ الأستاذ دور الموجه والمحفّز، بينما يقود الطالب دفة الحوار.
هل يخامرك تساؤل عمّا إذا كان هذا النهج يستنزف وقتًا كبيرًا من الحصة؟ في الواقع، لا أنكر أننا كأساتذة نواجه ضغوطات إنهاء البرنامج الدراسي في الوقت المحدد. غير أنني وجدتُ أن تخصيص ربع ساعة من التعلّم النشط قد يعادل في تأثيره ساعات من الشرح التقليدي الرتيب. علاوة على ذلك، ينتج عن هذه المشاركة "رأس مال" فكري يمتد إلى بقية الدروس، بل إلى أنشطة جماعية أخرى خارج المادة نفسها.
نصائح لبناء بيئة تعلّم تفاعلي
- ابدأ بالأسئلة المحفزة: قبل الدخول في تفاصيل الدرس، اطرح تساؤلات تعمل بمثابة "خطّاف" لجذب تركيز التلاميذ.
- شجّع التعاون: وزّع الأدوار داخل المجموعات، مثل: قائد النقاش، ومسجّل الملاحظات، وملخّص الأفكار.
- استخدم الدراما أو لعب الأدوار: فمثلًا، يمكن تعيين تلميذ يلعب دور "المدير"، وآخر دور "مسؤول الانضباط"، ليتفاعلا في تبادل الأدوار.
- انتبه للوقت: حدّد لكل مرحلة زمنًا معقولًا كي لا ينتقل الأمر إلى العشوائية.
- احرص على التفكير النقدي: في كل فكرة تُطرَح، اطرح السؤال الأساسي: "هل يمكن تطبيقها؟ وهل ترفع من مستوى تحصيلنا الدراسي؟"
قد يقول قائل: "أنا لا أمتلك الوسائل التكنولوجية الكافية!" أو "تلاميذي لا يملكون الصبر الكافي لأسلوب المناقشة!"، وأقول إن التعلم النشط التعاوني مع التفكير النقدي لا يتطلب أدوات خارقة بقدر ما يحتاج إلى إرادة الأستاذ وجَوّ تشاركي يقدّم المساحة للطلاب للتعبير والنقاش. وعن التجربة الشخصية، وجدتُ أن التلميذ يشعر بسحرٍ خاص عندما يكتشف أن أفكاره لها وزن في القرارات الصفّية، وأن التعليم يتكيّف مع ميوله لا العكس.
والآن، دعنا ننطلق إلى بضعة أسئلة شائعة قد تخطر لك أثناء الإعداد لتطبيق هذا الدرس، ثم نختتم رحلتنا بموجز شامل ونصائح عملية.
الأسئلة الشائعة
1. هل يتطلب هذا الأسلوب وقتًا أطول من الطريقة التقليدية؟
قد يستغرق في بعض الأحيان وقتًا إضافيًا، لكن المخرجات تكون أكثر ثباتًا وانسجامًا مع أهداف المنهاج. كما أن التفاعل يختصر عليك التكرار والنمطية في شرح المعلومات، لأن الطلاب يصنعون المعرفة بأنفسهم.
2. ماذا لو طغت الاقتراحات العشوائية أو غير المنطقية على النقاش؟
هنا يأتي دور الأستاذ في إعادة توجيه للحوارات نحو الأهداف الرئيسة، وطرح سؤال: "هل هذا فعّال حقًا؟" أو "كيف سيفيدنا في تحسين النتائج الدراسية؟" هذه الجُمل المفتاحية تسمح بتصفية الأفكار وتوجيهها لمسار عقلاني.
3. هل كل المستويات الدراسية تناسبها هذه الطريقة؟
يمكن تكييفها، لكن المرحلة المتوسطة أثبتت قدرتها على التفاعل الإيجابي مع التعلّم القائم على حل المشكلات. فالتلاميذ في هذا السنّ لديهم فضول كبير لاكتشاف ما يناسبهم، ووضع لمساتهم الخاصة في بيئتهم الدراسية.
الخاتمة
لقد أتاحت لي تجربة تدريس درس النظام الداخلي للمؤسسة التربوية وفق التعلّم النشط فرصة ذهبية لرؤية وجوه تلاميذي تشع بالفضول والمبادرة. إننا نعيش—نحن الأساتذة—في زمن تحوّل فيه التعليم من تمحورٍ حول المعلم وأسلوب إلقائه إلى التعليم المرتكز على التلميذ حيث الأفكار ملك الجميع. فكل فكرة تخطر للتلميذ، وإن بدت بسيطة أو حتى مضحكة، يمكن أن تقود إلى نقاش عميق يكشف عن إبداع لم نكن لنعرفه في إطار التلقين وحده.
إن الإبحار في عقول التلاميذ وهم يبتكرون قواعد جديدة ويتحاورون ويحاولون تطبيق سلطة النقد البناء، لهو مشهد يبعث فينا الطمأنينة على مستقبلهم التعليمي. هذه هي روح التفكير النقدي والإبداعي وهذا هو جوهر التعلّم بالمشاركة، بل هذا هو التعليم الحقيقي الذي يصنع من المدرسة مختبرًا للتجارب الحياتية.
المراجع
بذلك نكون قد أكملنا شرح تجربتنا وتحليلها، ونأمل أن تكون هذه الأفكار قد حفّزتك على خوض مغامرة تعليمية ممتعة مع طلابك.
مراجع عامة مقترحة:
- جون ديوي: "الديمقراطية والتربية" (ترجمة عربية متوفرة في بعض المكتبات).
- فريري: "تعليم المقهورين" (من ضمن أهم الكتب التي تناولت فلسفة التعليم النقدي).
- مقالات تربوية منشورة في المجلات الأكاديمية الجزائرية (2015–2020).