كثيرًا ما يجد المعلم نفسه في موقف محيّر: سؤال من تلميذ يفتح بابًا واسعًا لنقاش لم يكن في الحسبان، فيتحول مسار الدرس تمامًا. قد يرى البعض في هذا "خروجًا عن الموضوع" وتضييعًا للوقت الثمين للحصة، لكنني من خلال تجربتي كأستاذ لمادة التاريخ لأكثر من 22 عامًا، أرى في هذه اللحظات فرصة ذهبية لا تقدر بثمن، خاصة في ميدان العلوم الاجتماعية.
تجربة من داخل الفصل: من جدار الفصل إلى جذور التاريخ
في حصة حول التمييز العنصري، كنت أشرح لتلاميذي عن جدار الفصل العنصري الذي بناه الكيان الصهيوني في الضفة الغربية منذ عام 2002 بذريعة الأمن. لمعت عين تلميذ بسؤال بسيط وعميق في آن واحد: "لماذا؟". قادني هذا السؤال إلى شرح كيف يحرم هذا الجدار الفلسطينيين من أبسط حقوقهم، كالتنقل للوصول إلى أراضيهم الزراعية أو الصلاة في المسجد الأقصى، بهدف عزل التجمعات الفلسطينية وتقسيم الضفة الغربية. لم يتوقف الأمر هنا، بل تبعه سؤال آخر: "ولماذا يريدون تدمير الأقصى وبناء الهيكل؟".
هنا، وجدت نفسي مضطرًا للغوص في أعماق المعتقدات الدينية التي تحرك هذا الصراع، وشرح فكرة أن عودة المسيح المنتظر لديهم مرتبطة ببناء هذا الهيكل المزعوم. توالت الأسئلة، "لماذا فلسطين بالذات؟"، سؤال كشف لي عن حجم الفجوة المعرفية لدى التلاميذ. كان من المستحيل أن أترك هذه الأسئلة معلقة في الهواء. إن البناء على معلومات سطحية أو خاطئة في قضايا بهذه الحساسية يمكن أن يؤدي إلى كوارث فكرية. لذلك، بدأت رحلة عبر الزمن، من قصة سيدنا إبراهيم، مرورًا بيوسف وموسى وسليمان، وصولًا إلى عيسى عليهم السلام، وتوضيح السياق التاريخي والديني للصراع. انقضت الساعة الدراسية بأكملها، لم نتطرق للدرس المقرر، لكننا بنينا أساسًا معرفيًا متينًا ربما لن يجدوه في أي مصدر آخر بهذا الترابط والتسلسل.
فن استثمار "اللحظات التعليمية"
ما حدث في تلك الحصة ليس فشلاً في الالتزام بالخطة، بل هو مثال حي على ما يسميه خبراء التربية "اللحظة التعليمية القابلة للاستثمار" (Teachable Moment). هذه المواقف العفوية هي التي يكون فيها عقل الطالب في أقصى درجات الفضول والاستعداد للتعلم. تجاهلها بحجة ضيق الوقت يشبه بناء جدار على أسس هشة. ولكي لا يطغى الاستطراد على أصل المنهج، يمكننا كمعلمين استخدام استراتيجيات ذكية لتحقيق التوازن:
- التأطير الزمني: خصص جزءًا محددًا من الوقت (5-10 دقائق) للإجابة على السؤال الطارئ، مع ربطه بالدرس الأساسي قدر الإمكان.
- استراتيجية "موقف الأسئلة": عندما يكون السؤال مهمًا ولكنه بعيد جدًا عن موضوع الحصة، يمكن تدوينه على السبورة في ركن يسمى "موقف الأسئلة" (Parking Lot)، مع التعهد بالعودة إليه لاحقًا. هذا يُشعر التلميذ بالتقدير ويحافظ على مسار الدرس.
- تحويل السؤال إلى بحث: كلّف صاحب السؤال أو مجموعة من زملائه بالبحث عن إجابة معمقة وتقديمها في الدرس القادم. هذه الطريقة تنمي مهارات البحث والتعلم الذاتي وتثري النقاش في الحصة التالية.
خاتمة: المعلم البنّاء لا يتبع الخطة فحسب، بل يبني العقول
إن الخروج المدروس عن مسار الدرس ليس ضعفًا، بل هو قوة ومرونة بيداغوجية. إنه يعكس خبرة المعلم وقدرته على تشخيص الاحتياجات الحقيقية لتلاميذه والاستجابة لها بفعالية. في عالم سريع ومتغير، لا يمكننا الاكتفاء بتلقين معلومات مجردة، بل يجب أن نزود أبناءنا بالقدرة على طرح الأسئلة الصحيحة، والبحث عن إجاباتها، وربط الأحداث ببعضها البعض لفهم الواقع المعقد من حولهم. هذه المهارات هي جوهر التعلم الحقيقي، وهي ما يبقى معهم بعد فترة طويلة من نسيان تفاصيل الدرس المقرر.
