مقدمة: اللحظة التي يتجمد فيها الشرح
زميلي الأستاذ، زميلتي الأستاذة،
هل مررت بتلك اللحظة المحيرة؟ تقف أمام تلاميذك، مستعداً لشرح مفهوم تعرفه عن ظهر قلب، مفهوم مثل "التضاريس" أو "الموقع الفلكي". أنت تفهمه بعمق، تستخدمه يومياً، ولكن عندما تحاول صياغته في تعريف دقيق، بسيط، ومحكم لتقدمه للتلاميذ، تجد الكلمات تخونك. تشعر بالتردد، وتبحث عن أفضل صياغة ممكنة. أنت لست وحدك، هذه "المعضلة" هي جزء من رحلة كل معلم حريص ومتقن لعمله.
هذا المقال ليس لوماً، بل هو غوص في أعماق هذه الظاهرة التربوية: لماذا نتردد في شرح ما نعرفه جيداً؟ وما هي الحلول العملية لتحويل هذا التحدي إلى نقطة قوة؟
أولاً: تشخيص الأسباب.. لماذا نصمت أمام ما نعرف؟
التردد في صياغة التعريفات لا ينبع من الجهل، بل على العكس، غالباً ما ينبع من عمق المعرفة. دعونا نحلل الأسباب الرئيسية:
1. "لعنة المعرفة" (The Curse of Knowledge)
هو مصطلح في علم النفس يصف صعوبة تخيل شخص خبير كيف يبدو الأمر بالنسبة لشخص مبتدئ. كخبير في مادتك، أصبح المفهوم لديك بديهياً لدرجة أنك نسيت الخطوات الأولى التي قطعتها لفهمه. أنت ترى الصورة كاملة، بينما التلميذ يحتاج إلى اللبنة الأولى.
2. ازدواجية الهدف: الدقة العلمية مقابل التبسيط التربوي
أنت تسعى لتحقيق هدفين قد يبدوان متناقضين في نفس اللحظة:
- الدقة الأكاديمية: تريد تقديم تعريف شامل لا يترك أي ثغرة علمية.
- الوضوح التربوي: تريد تعريفاً بسيطاً يمكن لتلميذ في المرحلة المتوسطة استيعابه وحفظه.
3. الكمالية المقيدة (Maladaptive Perfectionism)
وهذا سبب جوهري وعميق. الكمالية المقيدة ليست هي السعي الصحي للتميز، بل هي الخوف من ارتكاب أي خطأ مهما كان صغيراً. وتتجلى في شكل:
- البحث عن التعريف "المثالي": الرغبة في إيجاد تلك الصياغة السحرية، الجامعة المانعة، التي لا يمكن انتقادها. هذا البحث عن المثالية يؤدي إلى الشلل التحليلي (Analysis Paralysis).
- الخوف من حكم الآخرين: القلق من أن يُنظر إليك كأستاذ غير دقيق، سواء من قبل زملائك، المفتش، أو حتى التلاميذ المتفوقين.
ثانياً: الحلول.. استراتيجيات عملية لصياغة واثقة
بمجرد أن فهمنا الأسباب، يمكننا الآن تبني استراتيجيات عملية ومباشرة، تبدأ جميعها من خطوة واحدة لا غنى عنها.
1. حجر الزاوية: التحضير المنهجي للمذكرة
إن التحضير الجيد للدرس هو السلاح الأقوى ضد التردد والكمالية. الدرس الذي يُحضّر بعناية يمنح الأستاذ ثقة لا تهتز. والخطوة الأهم في هذا التحضير هي حصر جميع المصطلحات والمفاهيم المتعلقة بالدرس مسبقاً. هذه العملية ليست مجرد إجراء إداري، بل هي تدريب عقلي يجعلك سيد الموقف. وتتم عبر:
- قراءة الدرس وتحديد مفاتيحه: قبل كتابة أي شيء، اقرأ محتوى الدرس وحدد الكلمات المفتاحية التي إن لم يفهمها التلميذ، انهار فهمه للدرس كله.
- إنشاء "بطاقة مصطلح" لكل مفهوم: خصص قسماً في مذكرتك للمصطلحات، ولكل مصطلح، جهز تعريفاً دقيقاً ومبسطاً. هذا العمل المسبق يحررك من عبء الارتجال والبحث عن الكلمات أثناء الحصة.
2. استراتيجية "التعريف المزدوج" في التحضير
بعد حصر المصطلحات، يأتي دور صياغتها. وهنا تبرز أهمية هذه الاستراتيجية. لكل مصطلح، اكتب تعريفين:
- "تعريف للتلميذ": جملة قصيرة، فصيحة، ومركزة. الهدف منها: الحفظ والفهم الأولي. جاهزة لتُكتب على السبورة.
- "شرح للأستاذ": فقرة موسعة لك أنت، تشرح الأبعاد المختلفة للمفهوم وأنواعه. الهدف منها: تسليحك بالمعرفة العميقة التي تمنحك الثقة للإجابة على أي سؤال طارئ.
3. ابدأ من الواقع قبل المصطلح
التحضير الجيد يتيح لك التفكير في أمثلة عملية. بدلاً من البدء بالتعريف المجرد، ابدأ بأمثلة محسوسة من واقع التلميذ.
لا تقل: "التضاريس هي الأشكال الطبيعية لسطح الأرض".
بل ابدأ بسؤال جهزته مسبقاً: "عندما تسافرون من الجزائر العاصمة إلى وهران، هل تبقى الأرض مستوية طوال الطريق؟ ماذا ترون؟". أنت هنا تبني المفهوم معهم لا تلقنه لهم.
4. جهّز ترسانة من التشبيهات
كجزء من تحضيرك، فكر في تشبيه أو استعارة لكل مفهوم صعب.
- الإحداثيات الجغرافية: "العنوان الوطني" لكل نقطة على الأرض.
- خطوط الطول: "شرائح البرتقال" التي تلتقي عند القطبين.
خاتمة: التحضير هو ترياق التردد
زميلي الأستاذ، ذلك التردد الذي تشعر به ليس علامة ضعف، بل هو علامة "ضمير مهني" حي. لكن لا يجب أن نسمح له بأن يقيدنا. إن الحل يكمن في تحويل القلق إلى فعل، والفعل هنا هو **التحضير المنهجي والدقيق**. عندما تدخل القسم ومذكرتك سلاحك، والمصطلحات معرّفة وجاهزة، فإنك لا تترك مجالاً للتردد. أنت لا تبحث عن الكلمات، بل تختارها. وهنا، تتحول من مجرد شارح للمعلومة إلى مهندس حقيقي للمعرفة في عقول تلاميذك.