![]() |
حين يصبح التاريخ عبئًا بدل أن يكون متعة! |
هل سبق لك أن رأيت تلميذًا يقفز من شدة الفرح لحظة دخوله حصة التاريخ؟ إن كانت الإجابة بـ"نعم"، فأنت من القلائل المحظوظين، لأن معظم الطلاب – إن لم نتهمهم كلهم ظلمًا – يتوجسون خيفةً من هذه المادة على نحو عجيب! وقد يتمنى بعضهم لو يُستبدل درس التاريخ بدرس "فن طهو البيتزا" مثلًا، فقط ليهرب من حصةٍ يمتزج فيها الملل والحِفظ والإرهاق الفكري. فما الذي يجري حقًّا؟ لماذا يفشل التاريخ في خطف قلوب التلاميذ رغم الزخم والحماسة التي يوفّرها لنا ماضي البلاد وثورتها وعظماؤها؟ وكيف نفهم ما ذكرته جريدة "الشروق" من حقائق حول عزوف الطلبة عن المتاحف وتفاديهم كل ما يُذكّر بالماضي؟ تعالوا معنا في جولةٍ مَرحة، مغلفة ببعض الغمزات الساخرة، لعلنا نصل إلى جذور المشكلة ونقتنص لها حلًّا.
أولًا: نفور التلاميذ من مادة التاريخ بين الواقع والخيال
تعليم تقليدي.. لا عزاء للابتكار!
يُجمع الكثير من الخبراء، ومعهم تلاميذ المتوسط والثانوي، على أنّ أسلوب التلقين في تدريس التاريخ يُشبه – من حيث الكآبة والروتين – شرابًا مُرًّا يُجبَر الطالب على ابتلاعه فجر يومٍ خريفيٍّ بارد! في حكاية وردت في تحقيق "الشروق"، أكد الطلبة بأنهم يشتهون فعلًا الوقوف على أعتاب متحفٍ تاريخي، لعلّهم يرون الأمور تتحرّك أمام أعينهم بدل التقوقع في حفنةٍ من التواريخ والأحداث الصمّاء. ومع ذلك، نادرًا ما تنظم المدراس رحلات ميدانية للمتاحف أو الأماكن الأثرية، وكأنّ هناك "حظرًا تجواليًا" غير معلَن تجاه هذه الأماكن.
ففي حين يُمكن لزيارةٍ بسيطة إلى متحف المجاهد أو متحف الجيش بجوار رياض الفتح بالعاصمة الجزائرية أن تحول الحصة إلى مغامرةٍ تفاعلية، نجد أن المعلم غالبًا في سباقٍ مع الزمن لإتمام المنهج "الأسبق إلى حشو دماغ الطالب بالمعارك والتواريخ هو الفائز"، فينسى الجميع الجزء الممتع: الربط الحي بالحياة الواقعية. هل نتوقع من التلميذ أن يتحوّل فجأةً إلى مؤرخٍ بارعٍ بفعل هذه الآلية الجامدة؟ بالتأكيد لا، وإجابته ستكون حتمًا: "يا أستاذ، هل يمكنني الخروج لكسر روتين النعاس؟"
ضغوط الاختبارات وثقافة الدرجات
ذكر التحقيق الصحفي في "الشروق" أيضًا أن بعض التلاميذ لا يرون في التاريخ سوى فرصةٍ لاقتناص درجةٍ في الامتحان، بشكلٍ يشبه لعبة "من يحفظ أكثر يفز بالعلامة الأعلى". وبمجرد انتهاء الاختبار، تسقط تلك المعلومات في بئر النسيان. فلا يذكرون من الثورة التحريرية مثلًا إلا تواريخ بدت في الأفق كأشباح: 1830، 1954، 1962… ثم انطلاق صافرة النهاية، كله انتهى!
هذا المناخ يزيد حالة "البؤس الدراسي": متاحفٌ شبه فارغة، وطلبةٌ يسيرون في دروب الحفظ الأعمى، ومعلمون مُطارَدون بعدّاد الزمن لإنهاء البرنامج المقرر. والنتيجة: يخرج التلميذ متشبعًا بنصوصٍ ورقية ويجهل أسماء أبطال الثورة. بل ومن المفارقات المضحكة المبكية التي ذكرها التحقيق أن أستاذًا لم يكن يدري من هو "ديدوش مراد"!
ثانيًا: أعراض العقوق التاريخي.. والمسببات العجيبة!
رتابة العرض وفقدان عنصر الحكاية
يا للصدمة!.. كيف نتوقع أن يعشق الطالب مادةً تُقدَّم له كأنها حِصة شهادةٍ جنائية يُراجع فيها القاضي سجِلًّا مزدحمًا بالتفاصيل؟ ما فائدة معرفة هجوٍم عسكريٍ في حقبةٍ قديمة من دون إدراك تداعياته على واقعنا، أو العِبر الكامنة فيه؟ في استطلاع الشروق، عبّر كثيرون عن حاجتهم لحكاياتٍ مؤثرة، قصصٍ تمثّل الصراع الإنساني خلف هذه الأحداث، بدل رصف التواريخ والأماكن وكأنها "قائمة تسوقٍ" طويلة قد تُشعر أيٍّ منّا بالملل.
نقص الانفتاح على التكنولوجيا والوسائط التفاعلية
أليس من الغريب أن يعيش الجيل الحالي عصر القفزات الإلكترونـية والواقع الافتراضي، ثم نطالبه بأن يتقبل درسًا تقليديًا لا يوفر له أدنى مساحة للتفاعل؟ هذا ما تطرّق إليه التحقيق، إذ نوّه إلى مبادراتٍ محدودة تستخدم أفلام فيديو قصيرة وعروضًا رقمية، سواء في "معرض الذاكرة" أو متحف المجاهد. لكن هذا الانفتاح في حاجةٍ إلى تغطية منهجية شاملة، لا إلى مبادراتٍ خجولة يبذلها متحفٌ هنا وآخر هناك.
غياب الزيارات المنظمة للمتاحف
ربما يعتري المديرين خوفٌ غامضٌ من فكرة رؤية الأطفال يقفزون في بهو المتحف ويجوبونه بعشوائية، أو أنهم مشغولون بـ"تعبئة السجلات" و"ضبط الحصص". في كل الأحوال، تبقى المتاحف التاريخية خاليةً على عروشها، تتزين بآلاف الصور والوثائق والشهادات من دون ضيوف! حتى في عطلة الشتاء – كما لاحظت الشروق – لم يتجاوز عدد الزوار أصابع اليد الواحدة. نقولها بأسىٍ مغموس بحسِّ الفكاهة: "ما جدوى كنوزٌ تاريخية لم تجد من يُنقّب عنها؟"
ثالثًا: خليط من الحلول المبتكرة.. جرّبوا إثارة الفضول!
تحويل التاريخ إلى حكايةٍ حيّة جذابة
انطلاقًا من تجربةٍ ذكرناها في مقالنا السابق، يتحدث أستاذ في مدرسة جزائرية عن إحياء حصّة التاريخ بتمثيل دور الخلفاء والعلماء والتجار، فكانت الأصوات تعلو بالضحك والجدال، والأعين تبرق حبًّا للمعرفة. تصوّر يا رعاك الله جرعة الحماس عندما يُوزَّع الطلاب إلى أدوارٍ لشخصياتٍ ثورية في حرب التحرير، وعليهم تشخيص معارك تاريخية بلباسٍ تقليدي أو حتى باستخدام تطبيقاتٍ رقمية! هذه التجارب البسيطة قادرةٌ على تحويل فأر الملل إلى نمر الشغف.
الرحلات المدرسية والتكامل مع المتاحف
من يصدق أن رحلةً واحدةً في الفصل الدراسي قد تقلب الرأي الشعبي للتلاميذ عن التاريخ رأسًا على عقب؟ في التحقيق الصحفي، تحدث مدير متحف المجاهد عن أهمية هذه الزيارات في تقريب الحدث من خيال التلميذ، فترى مجسماتٍ للأسلحة القديمة، نُصبًا تذكاريًّا للشهداء، وثائق أصلية تحكي القصة بعفوية مثيرة. لذا، تأتي دعوة مختصي التربية وأولياء الأمور لضرورة "فرض" – نعم فرض وليس فقط اقتراح – زيارة المتاحف ضمن برامج التعليم، حتّى لا يتملَّص الطالب من فرصة "عناق الماضي" واستلهام الدروس منه.
اقتراحات ساخرة لمواجهة الواقع!
• لما لا نمنح علاماتٍ إضافية للطالب الذي يكتشف معلومةً تاريخية جديدة خارج المنهج؟ على سبيل المثال، إن أحضر لنا وثيقةً نادرةً أو قدّم معلومةً عن بيت الشاعر مفدي زكرياء؟ ربّما حينئذٍ يهرع التلاميذ نحو المكتبات والمتاحف.
• ما المانع في تحويل درس التاريخ إلى سباقٍ مرحٍ بين المجموعات؛ فالفائز بالتسلسل الزمني الصحيح للأحداث يحصل على "كوبون" وجبةٍ مجانية؟ هذه طريقةٌ كتلك المشهورة في المسابقات التلفزيونية، تحوّل المآسي إلى متعةٍ لا تُنسى.
• ولِمَ لا نبتدع منصة رقمية بعنوان "تاريخنا يا أغلى حلم" تشبه ألعاب الفيديو؟ فيخوض الطالب مغامرته الخاصة بقائدٍ أو بطلٍ تاريخي، مع مستوياتٍ مختلفة تتناول حقبًا زمنية متصاعدة الصعوبة؟ نعم، ستختفي شكاوى الملل في زمن الألعاب التفاعلية.
رابعًا: المتاحف الرقمية والخدمات الجاذبة
في الجانب التقني، خلُص كثيرٌ من الباحثين (ومنهم المؤرخ دحماني) إلى أنّ "التكنولوجيا" سلاحٌ فعّالٌ في يد الباحثين عن مخرجٍ من جحيم الملل. فقد أدى إدخال خرائط تفاعلية وعروض صوتية ومقاطع أرشيفية مصوّرة إلى جذب الكثيرين، ولكن العقبة تكمن في غياب التنسيق مع المدارس. من يحرك هذه المبادرات نصطدم بمشكلة واحدة: "الأستاذ" أو "الإدارة" أو "المنهاج"؟ كل طرفٍ يلقي بالكرة في مرمى الآخر! وفي الواقع، ينقصُنا – ببساطةٍ – قرارٌ وزارة يفرض مسارًا واضحًا: "يا جماعة الخير، لا شهادة دراسية بلا زيارةٍ واحدة على الأقلّ لمتحف تاريخي أو معلمٍ أثري!"
خامسًا: صعوبات تنفيذية في المدرسة العربية
ضغط المناهج وتكدس المعلومات
لمَ لا يتم تخفيف كمّ الأحداث وزخمها، والتركيز على الأكثر أهمية، وترك التفاصيل للبحوث الشخصية؟ سيقول المتشائمون: "كيف سنعرّفهم بكل تاريخنا العريق؟" والرد ببساطة: "غذِّه بالعمق لا بالكم، وامنح مساحة للروح كي تستوعب الحكمة."
ضعف تكوين الأساتذة
تقتضي مرحلة التغيير أن يحصل المعلمون أنفسهم على دوراتٍ تكوينية في فنون التواصل التفاعلي واستخدام الوسائط الرقمية. فنّ القصة Historiography، وأساسيات التحفيز الشعبي، وأدوات الأرشيف الإلكتروني، كلّها نقاطٌ حاسمة كي يقدِّم الأستاذ نسخةً مشوّقةً من حصّته.
قناعاتٌ اجتماعية خاطئة
لا يزال البعض يرى أن النشاط الثقافي والتراثي لا يُفِيد الطالب إلا في "إضاعة الوقت"، متناسين أن "جذور المستقبل" تُزرع في تربة الماضي. لذا، لا غرابة أن نجد في بعض البيوت ثقافةً تُشكّك في أهميّة زيارة المتحف أو اقتناء الكتب التاريخية.
قصة حقيقية
تقول الحكاية إنّ أستاذًا للتاريخ قرأ ذات يوم مقال "الشروق" عن عزوف الناس عن المتاحف، فنهض مجتهدًا وقال: "سألقي درسًا حيًا من داخل المتحف، حيث يستقبلنا مُرشدٌ سياحي يأخذنا في جولة عبر أحداث الثورة." تحمّس المدير في البداية، لكن في اليوم الموعود، تذكّر الجميع أنّ الحافلة المدرسية "خارج الخدمة" منذ القرن الماضي! فما كان من الأستاذ إلا أن جمع الطلبة وأسّسوا قافلةً "مشيًا على الأقدام" نحو المتحف؛ ولكن بعد نصف ساعة من السير لتلاميذٍ صغار، بدأ البعض يشتكي من العطش والتعب. وحين وصلوا متأخرين، كان المتحف على وشك الإغلاق! لكن رغم العقبات، تلك الحصة علّمت الطلبة درسًا غير مألوفٍ في العزيمة والتشبث بالمعرفة، وتحوّلت التجربة نهايةً إلى حكايةٍ ملهمة يتناقلها زملاؤهم بقليلٍ من الضحك وكثيرٍ من الاعتزاز.
بلا ملل،
إنّ الصورة التي عرضتها جريدة "الشروق" عن زيارات المتاحف، وتجاهُل كثيرٍ من المؤسسات التربوية لتجسيد التاريخ بأدواتٍ عصرية، تكشف قصورًا في تحويل مادةٍ ثرية بالقصص والمآثر إلى شيءٍ أقرب إلى "متعة الاستكشاف". وليس نفور التلاميذ من مادة التاريخ قدرًا محتومًا، بل هو خطأ بشري في إدارة الموارد الثقافية، وتخصيص الميزانيات، ووضع الخطط. ما نحتاجه باختصار هو جرعة ابتكار، قرارات حكيمة من الوزارة، وتغيّر حقيقي في عقلية الأسرة؛ كي يُصبح التاريخ – لا مادةً للحفظ والاختبار – بل نافذةً يعبر منها الطالب نحو فضاء الفكر والنقد والإلهام.
فهل لنا أن نحلم بيومٍ يقول فيه تلميذ ثانوي: "يا إلهي، كم أتوق لحصة التاريخ التالية، حتى أزور الماضي وأستكشف أسراره؟" إن تحقق هذا المشهد سيغدو مفاجأةً سارةً للبعض ومصدرًا للسخرية لدى آخرين، لكنه قد يعبّر أخيرًا عن صحوةٍ تربويةٍ طال انتظارها!