مقدمة: هل التعليم يصنع الفرق حقًا؟
كثيرًا ما نسمع أن التعليم هو مفتاح النجاح، لكن هل هذا النجاح محصور فقط في الوظائف المكتبية أو الأكاديمية؟ هل يمكن لخريج مدرسة لم يكمل تعليمه الجامعي أن يكون أكثر نجاحًا في مهنة تقليدية مثل تربية الأغنام من شخص لم ينل حظه من التعليم؟ تجربتي الشخصية مع أخي تقدم إجابة قاطعة: نعم، وبفارق شاسع.
أخي، الذي لم يكمل تعليمه الثانوي، لم يكن من الطلاب المتفوقين، لكنه اليوم مربي أغنام ناجح. وعندما أقارن قطيعه الصحي النظيف الذي يتكاثر بشكل ممتاز، بقطعان أخرى تعاني من الأمراض ونفوق الحملان، و كيف يتحدث عن تربية الغنم أدرك أن الفرق ليس في الحظ أو الخبرة المتوارثة، بل في شيء أعمق بكثير: أثر التعليم على العقلية.
التعليم لا يغيّر المهنة.. بل يغيّر طريقة التفكير فيها
من خلال متابعتي لأخي، أدركت أن التعليم لا يغيّر نوع المهنة، بل يغيّر طريقة التفكير فيها. فالمتعلم لا يعمل بيديه فقط، بل بعقله أيضًا. وهذه بعض الفروق التي لاحظتها بين المربي المتعلم والمربي التقليدي:
1. المتعلم يبحث، والتقليدي يكتفي بالموروث
أول فرق جوهري لاحظته هو "الفضول المعرفي". إن رحلة التعلم لا تنتهي بانتهاء الدراسة. بينما يكتفي المربي التقليدي بالموروث من ما سمعه من ابائه و اجداده، وجدتُ أخي يبحث بنشاط. يتحدث معي عن "أفضل أنواع الأعلاف المركزة"، و"جدول التطعيمات الوقائية"، و"طرق تحسين النسل" . هذا الفضول هو محرك ما يسميه الخبراء بالتعلم الذاتي أو التعلم مدى الحياة (Lifelong Learning). فهو يدرك أن أهم مهارة اكتسبها من المدرسة ليست المعلومات، بل هي القدرة على "أن يتعلم كيف يتعلم"، وهي الفكرة الجوهرية التي بنيت عليها كتابي "مصباح: أضئ عقلك وحول التعلم إلى مغامرة". هو لا يربّي الغنم فحسب، بل يطور مشروعه بناءً على معرفة متجددة، كل يوم عنده تجربة جديدة، وكل مشكلة عنده فرصة للتعلم وهذا يثبت أن الاستثمار في تطوير الذات هو أساس النجاح في أي مجال.
السنوات التي قضاها في المدرسة، حتى لو لم تكن في مجال الزراعة و تربية الماشية، علمته مهارة أساسية: كيف يتعلم. لقد اكتسب القدرة على البحث عن المعلومة، وفهمها، وتطبيقها، وهي مهارة لا تقدر بثمن في أي مجال.
2. التفكير المنهجي في مواجهة العشوائية
المشكلات جزء لا يتجزأ من تربية الماشية، لكن طريقة التعامل معها هي ما يميز المتعلم عن غيره. إليك مقارنة بسيطة:
- المربي التقليدي: عندما يمرض أحد الخراف، قد يلجأ إلى وصفات شعبية أو يتجاهل الأمر حتى يتفاقم، مما يؤدي لانتشار العدوى ووفاة الحملان الصغيرة.
- المربي المتعلم (مثل أخي): عندما يلاحظ أعراضًا غريبة، يبدأ بالبحث المنهجي. يعزل الخروف المريض، يراقب الأعراض بدقة، يبحث عن الأمراض المحتملة، يتواصل مع بيطري إذا لزم الأمر، ويوثق الحالة ليتجنبها مستقبلًا.
التعليم يمنح أدوات ذهنية مثل التفكير النقدي ومهارات حل المشكلات. فبدلًا من التعامل مع التحديات بردود فعل عشوائية، يصبح الشخص قادرًا على تحليل الأسباب، تقييم الخيارات، واتخاذ قرارات مبنية على بيانات. هذا لا يمنع وقوع المشاكل، ولكنه يغيّر طريقة التعامل معها من "ماذا حدث؟" إلى "لماذا حدث وكيف أمنعه مستقبلًا؟".
هذا هو "التفكير المنهجي" الذي يغرسه التعليم. إنه يحولك من شخص يتعامل مع المشاكل بردود فعل عشوائية، إلى شخص يحلل، يخطط، وينفذ حلولًا مبنية على معرفة.
دراسة حالة: كيف أنقذ "بحث جوجل" قطيعًا من كارثة السيلاج؟
لعل أفضل مثال على قوة التفكير المنهجي هو موقف واقعي حدث مع أخي. في منطقتنا، اتجه معظم المربين إلى استخدام علف "السيلاج" بكثافة لأنه رخيص ومتوفر. لكن أخي، رغم حداثة تجربته، قرأ وبحث ووجد أن الإفراط في هذا العلف دون توازن قد يسبب "الحماض" للنعاج، مما يؤثر على حليبها ويجعله قاتلًا للحملان الرضيعة.
نصح زملاءه بتوخي الحذر والموازنة مع أعلاف جافة، لكنهم للأسف تجاهلوا نصيحته. والنتيجة كانت كارثية، حيث بدأت الحملان الصغيرة تموت فجأة لديهم، وخسروا جزءًا كبيرًا من مواليد الموسم. أما قطيع أخي الصغير، فقد نجا بالكامل. لم يكن السبب هو الحظ، بل كان نتيجة مباشرة للبحث والتفكير النقدي، وهو ما أنقذ استثماره من الضياع قبل أن يبدأ.
3. النظرة المستقبلية: من مجرد قطيع إلى مشروع اقتصادي
التعليم يمنحك القدرة على رؤية الصورة الأكبر. المربي التقليدي قد يرى أغنامه كمصدر لحم وحليب موسمي، لكن المتعلم يراها كأصول في مشروع اقتصادي متكامل.
أخي لا يفكر فقط في تغذية أغنامه اليوم، بل يخطط للمستقبل. يفكر في:
- الجدوى الاقتصادية: يحسب تكاليف العلف والأدوية ويقارنها بعائدات البيع.
- تحسين الإنتاجية: يبحث عن سلالات أفضل وإنتاجية توائم أعلى.
- الاستدامة: يهتم بنظافة الحظيرة وصحة المرعى لضمان استمرارية مشروعه على المدى الطويل.
هذه النظرة الاستراتيجية هي نتاج مباشر لعقلية منظمة صقلها التعليم، حتى لو كان في أبسط مستوياته.
خاتمة: التعليم ليس شهادة.. بل مصباح يضيء كل دروب الحياة
قصة أخي ليست مجرد تجربة شخصية، بل هي دليل حي على أن قيمة التعليم لا تكمن في الشهادة المعلقة على الحائط، بل في "الأثر" الذي يتركه في طريقة تفكيرنا وتعاملنا مع الحياة. لقد أضاء التعليم عقله، فحوّل مهنة بسيطة إلى مغامرة من التعلم والنمو والنجاح.
وهذا بالضبط ما ينبغي أن نسعى إليه في مدارسنا: تعليم يُنير العقول ويفتح الآفاق، لا تعليم يُعلّق على الجدران. فالقيمة الحقيقية للمعرفة تظهر عندما تغيّر طريقة تفكيرنا في الحياة والعمل، أيًا كان المجال.
تذكر: كل معادلة رياضية تحلها، وكل نص تاريخي تحلله، وكل قاعدة لغوية تتقنها، هي في الحقيقة تدريب لعقلك ليصبح أكثر قدرة على حل مشاكل الحياة، مهما كان المجال الذي ستختاره في النهاية.
ملاحظة: الأفكار الواردة مستمدة من تجربة شخصية وملاحظات ميدانية في مجال تربية الماشية، وليست من مصادر بحثية مباشرة.