📁 آخر المقالات

صانع النجوم.. رسالة إلى من أضاء عتمة عقولنا في يوم المعلم

مقدمة: الخامس من أكتوبر ليس مجرد تاريخ، بل هو بوصلة امتنان

في زحمة الأيام، هناك تواريخ تتلألأ كالجواهر على تقويم الزمن، والخامس من أكتوبر هو أحدها. إنه ليس مجرد يوم عطلة أو مناسبة لتبادل التهاني، بل هو محطة نقف فيها لنرسل تحية صامتة إلى أولئك الذين حملوا على عاتقهم أثقل الأمانات: أمانة العقل. إنه اليوم الذي نحتفي فيه بـ "صانعي النجوم"، اليوم العالمي للمعلم، أولئك الذين يرون في كل تلميذ مشروع نجمٍ ينتظر أن يسطع في سماء المستقبل.

من قلب الميدان: شهادة من مهندس عقول

أكتب لكم اليوم ليس فقط كأستاذ للتاريخ والجغرافيا، بل كشاهد عيان لأكثر من عقدين من الزمن قضيتها في ورشة بناء العقول. أنا الأستاذ محمد بوداني، مؤلف كتاب "مصباح"، الذي حاولت فيه أن أجعل العلم رحلة ممتعة. في كل يوم، أرى المعلمين كالنحاتين، يتعاملون مع كتلة صخرية خام (العقل)، وبصبر وأناة، يبدأون في إزالة الزوائد وكشف الجمال الكامن بداخلها، حتى يتحول الحجر الأصم إلى تحفة فنية. هذه المقالة هي شهادتي، وخلاصة آلاف القصص التي نقشتها في ذاكرتي.

منارة الإيمان: على خُطى المعلم الأول

وقبل أن تحتفي اليونسكو بيوم المعلم، وقبل أن تُسن القوانين والتشريعات، كانت رسالتنا السماوية قد وضعت المعلم في مكانة تفوق كل تكريم. فالمعلم الأول، سيدنا محمد ﷺ، لم يُبعث ملكًا ولا تاجرًا، بل بُعث معلمًا للبشرية. كانت أول كلمة نزلت عليه من السماء هي "اقرأ"، في إعلان رباني بأن الحضارة تبدأ من الحبر والورق، وبأن نهضة الأمم تنطلق من فصول العلم. قال عليه الصلاة والسلام: "إنما بُعثتُ معلمًا"، ليضع بنفسه الميزان الذي تُقاس به قيمة هذه المهنة.

لقد كان منهجه ﷺ في التعليم فريدًا؛ لم يكن يعتمد على التلقين، بل كان يربي بالقدوة، ويُعلّم بالسؤال، ويغرس القيم بالقصة والمثل. كان يرى في أصحابه مشاريع قادة وعلماء، فصنع منهم جيلًا أضاء الدنيا. كما رفع القرآن الكريم من شأن أهل العلم حين قال: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ". فالعلم في ديننا ليس مجرد معلومات، بل هو خشية وعبادة، والمعلم ليس موظفًا، بل هو وارث لمهمة الأنبياء.

لذلك، حين نُكرّم المعلم، فنحن لا نؤدي واجبًا اجتماعيًا فحسب، بل نحيي وصية إلهية ونبوية. نحن نؤكد أن هذا الصانع للنجوم، هو في الحقيقة حارس لمنارة الإيمان والمعرفة التي تضيء دروبنا.

لماذا المعلم؟ لأنه الأكسجين الذي يتنفسه المجتمع

قد نتساءل: لماذا كل هذا الاهتمام بالمعلم؟ الإجابة بسيطة ومرعبة في آن واحد: لأنه إن صلح، صلح الجيل بأكمله. في عام 1966، أدركت منظمات عالمية كاليونسكو هذه الحقيقة، فوضعت "توصية أوضاع المدرسين" التي كانت بمثابة ميثاق شرف عالمي لحماية هذا الدور المحوري.

المعلم ليس مجرد ناقل للمعلومات، فتلك مهمة يمكن لأي محرك بحث القيام بها اليوم. المعلم هو من يقوم بما هو أبعد من ذلك:

  • هو البستاني: الذي يلقي بذرة السؤال في تربة عقلك، ثم يسقيها بالفضول، ويقتلع أعشاب اليأس، وينتظر بصبر حتى تُزهر فيك شجرة المعرفة.
  • هو القبطان: الذي يبحر بسفينتك في خضم بحر المناهج المتلاطم، ويعلمك كيف تقرأ خريطة العلم لتصل إلى شاطئ النجاح بأمان.
  • هو الشرارة الأولى: تمامًا كعود الثقاب الذي يشعل نارًا عظيمة، قد تكون كلمة واحدة من معلمك هي تلك الشرارة التي توقد فيك حلمًا لم تكن تعلم بوجوده.
تقدير و احترام المعلم ليس رفاهية، بل هو اعتراف بأن المجتمعات العظيمة تُبنى في الفصول الدراسية قبل أن تُبنى في أي مكان آخر.

مرجع رسمي (اليونيسكو)

للاطلاع على نص توصية أوضاع المدرسين (5 أكتوبر 1966) الرسمي من اليونسكو — والذي يحدد المعايير الدولية لحقوق ومسؤوليات المعلمين — يمكنك زيارة الصفحة الرسمية أو تحميل النص الكامل عبر الرابط التالي:

قراءة التوصية - UNESCO (نص رسمي).

(ملاحظة: الصفحة الرسمية تحتوي على نص التوصية وروابط للنسخ الكاملة بصيغة PDF).

من وحي القسم: قصة تلميذ والشرارة التي أشعلت كل شيء

في مسيرتي التعليمية الطويلة، تعلمت أن أعظم الانتصارات لا تُقاس بالدرجات العالية، بل بالشرارة التي تضيء في عين تلميذ كان على وشك أن ينطفئ. أتذكر جيدًا "أمين"، تلميذ كان يجلس في الصف الأوسط، لا هو بالمشاغب ولا هو بالمتفوق. كان هادئًا، حضوره باهت، وإجاباته دائمًا مختصرة، وكأنه يخشى أن يخطئ.

كنت أراه يصارع مع مادة التاريخ، يحفظ التواريخ بجهد واضح لكن دون شغف. في أحد الأيام، كنا نناقش تضحيات شهدائنا الأبرار. وبدلًا من التركيز على الأرقام، بدأت أتحدث عن الجانب الإنساني: عن رسائل الشهداء لعائلاتهم، عن أحلامهم التي تركوها من أجل الوطن. كانت نبرتي هادئة ومفعمة بالاحترام، لا بالخطابية الرنانة.

بعد الدرس، وبينما كان التلاميذ يغادرون، بقي أمين في مكانه. تقدم نحوي ببطء، وفي يده ورقة صغيرة، وقال بصوت خافت: "أستاذ، جدي كان من الشهداء... لم أفهم معنى ذلك حقًا إلا اليوم". كانت كلماته البسيطة بمثابة زلزال عاطفي بالنسبة لي. في تلك اللحظة، لم أكن مجرد أستاذ تاريخ، بل كنت الشخص الذي ربط أمين بتاريخ عائلته وبجذوره.

منذ ذلك اليوم، تغير كل شيء. أمين لم يعد مجرد تلميذ هادئ، بل أصبح باحثًا صغيرًا، يشارك، يناقش، ويصحح لي بعض التفاصيل التي يرويها له والده عن جده الشهيد. تحولت علاماته، لكن الأهم من ذلك، تحولت شخصيته. لقد وجد نفسه في تاريخه. هذه القصة هي جوهر رسالتنا: نحن لا نعلم المواد، بل نوقد الشغف ونعيد اكتشاف الهوية. وتقدير المعلم الحقيقي هو أن ترى ثمرة غرسك تزهر أمام عينيك.

كيف تصنع "لحظة أمين" الخاصة بك مع معلمك؟

التقدير الحقيقي هو أن تصنع فارقًا في يوم معلمك كما صنع هو فارقًا في حياتك. إليك بعض الطرق التي تتجاوز التقليدي:

  • كن صدى لجهده: عندما يشرح معلمك فكرة صعبة، ثم تستخدمها أنت في نقاش أو إجابة، فإنك تكون كالصدى الذي يؤكد له أن صوته قد وصل. هذا هو أعظم تقدير.
  • اكتب قصة وليس رسالة: بدلًا من "شكرًا على جهودك"، اكتب له: "أتذكر يا أستاذ يوم شرحت لنا تلك القاعدة المعقدة بطريقة كذا... يومها فقط فهمتها". القصص تخلد في الذاكرة، أما العبارات العامة فتتلاشى.
  • اهدهِ نجاحًا: تفوقك في مادة كان يدرسها لك حتى بعد أن تركك وانتقلت لصف أعلى، هو أبلغ رسالة امتنان يمكنك أن ترسلها له عبر الزمن.

في قلب العطاف: يوم للوفاء يخلّد ذكرى بناة العقول

وفي هذا اليوم بالذات، الخامس من أكتوبر 2025، لم يبقَ التقدير مجرد حبر على ورق، بل تحول إلى حقيقة ملموسة هنا في ولايتنا. لقد شهدت أروقة ثانوية الجيلالي بونعامة بمدينة العطاف مشهدًا يفيض بالوفاء والعرفان. ففي مبادرة استثنائية احتفالا باليوم العالمي للمعلم، ة تجسيدًا لفكرة نبتت ونمت على مدار عام كامل، أقام السيد بلعربي فقير، مفتش مادة التاريخ والجغرافيا للتعليم المتوسط، يومًا تكريميًا على شرف فرسان الميدان التربوي: الأساتذة المتقاعدون والقدامى و المتالقون.

كانت القاعة تعج بمزيج فريد من المشاعر؛ حنين للماضي، وفخر بالحاضر، وأمل في المستقبل. لقد كانت لحظة تلاقت فيها الأجيال، حيث صافحت أيادي العطاء التي خطّت أولى الكلمات على السبورات، أيادي الأمل التي تحمل اليوم مشعل العلم. إن هذا التكريم ليس مجرد احتفالية، بل هو رسالة بليغة تقول للأجيال الجديدة من المعلمين: "أثركم لا يُمحى، وعطاؤكم لا يُنسى". إنه برهان حي على أن مجتمعنا، في قلب عين الدفلى، لا يزال ينبض بالتقدير لمن بنوا أعمدته الفكرية.

ألبوم صور من حفل تكريم الأساتذة

رسالة أم وظيفة؟ قصة وسامٍ على صدر بائع الجرائد

لطالما تردد على مسامعنا السؤال الأزلي: هل التعليم مجرد وظيفة لكسب الرزق، أم أنه رسالة تتجاوز حدود المال والزمن؟ يجيبنا القرآن الكريم بآية تهز الوجدان: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ". هذا الاستفهام ليس للسؤال، بل للتقرير بأن الفارق بينهما كالفارق بين النور والظلام. ولهذا صدح الشاعر قائلًا: "قُمْ لِلْمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَّبْجِيلَا... كَادَ الْمُعَلِّمُ أَنْ يَكُونَ رَسُولَا".

هذه المعاني ليست مجرد شعارات، بل هي حقائق تتجلى في قصص يرويها الزمان. ومن أروع هذه القصص، تلك التي بطلها جراح القلب العراقي العالمي، الدكتور ضياء كمال الدين، في يوم تكريمه .

في قاعة يملؤها التصفيق والبريق في بغداد، كان الدكتور ضياء على وشك تسلم وسام الإبداع تقديرًا لإنجازاته الطبية العالمية. وعند مدخل القاعة، اخترقت عينيه صورة رجل عجوز يفترش بضاعته المتواضعة من الجرائد على الرصيف البارد. توقف الزمن للحظة. تلك الملامح التي حفرها الزمان لم تستطع أن تمحو من ذاكرته صورة معلمه الأول في الإعدادية.

وسط ذهول الحاضرين، ترك الدكتور ضياء مقعده واتجه بخطى سريعة ليس إلى منصة التكريم، بل إلى خارج القاعة. اقترب من الرجل العجوز وانحنى ليقبل يده. ارتعد بائع الجرائد وقال بصوت خائف: "لا يا بني، سأغادر المكان، لن أفرش هنا مرة أخرى". رد عليه الدكتور بصوت تخنقه العبرات: "بل أنت لن تفرش على هذا الرصيف بعد اليوم أبدًا... تعال معي يا أستاذي".

أمسك بيد معلمه وسحبه برفق إلى داخل القاعة الفاخرة، صعودًا إلى منصة التتويج. أمام عدسات الكاميرات وأعين المندهشين، عانق الدكتور معلمه في بكاء حار، ثم تناول وسام الإبداع وقلّده على صدر بائع الجرائد وهو يصرخ في الحضور: "هؤلاء هم من يستحقون التكريم! والله ما تخلفنا إلا يوم أهملنا من بنى عقولنا. إن التعليم ليس وظيفة لمن أراد المال، فهناك ألف باب آخر للثراء. التعليم رسالة لمن أراد أن يبني الإنسان!".

ذلك الرجل العجوز كان الأستاذ "خليل علي"، معلم اللغة العربية الذي رأى في تلميذه الصغير مشروع عالم، فكان له ما أراد. هذه القصة هي الجواب الصارخ: التعليم رسالة، والمعلم رسولها، وأثره لا يمحوه غبار الزمن ولا يطويه النسيان.

أسئلة للتأمل

هل فكرت يومًا أن معلمك يخوض معاركه الخاصة؟
خلف ابتسامته الهادئة، قد يكون هناك معلم يكافح ليوازن بين متطلبات مهنته الشاقة وحياته الشخصية. تقديرك قد يكون نقطة الضوء في يومه.

ما هو الأثر الذي تريد أن يتركه معلمك فيك؟ وما الأثر الذي تريد أن تتركه أنت فيه؟
العلاقة بينكما ليست طريقًا في اتجاه واحد. كما أنه يشكّل جزءًا من شخصيتك، فإن تفاعلك ونجاحك يشكلان جزءًا من إرثه المهني. كن قصة نجاح يرويها بفخر.

لو كان بإمكانك أن تهدي معلمك شيئًا واحدًا لا يُشترى بالمال، فماذا سيكون؟
ربما يكون دقيقة من انتباهك الكامل، أو لحظة "فهم" تلمع في عينيك، أو دعاء صادق في جوف الليل. هذه هي الهدايا الحقيقية.

تحية لأبطال الرياضيات... شرارة البداية وسر الصبر

وفي رحلة كل منا، هناك محطات فارقة وأشخاص محوريون. وفي مسيرتي مع الرياضيات، هناك أستاذان فاضلان لكل منهما بصمته الخالدة التي لا تشبه الأخرى.

تحية أولى إلى من أوقد الشعلة، الأستاذ الفاضل عبدوني محمد، في متوسطة الصامت شقرار بالعبادية. لقد كان هو "موقد الشعلة" الذي حول فضولي الأول إلى شغف حقيقي، وجعل من عالم الأرقام فضاءً رحبًا للاستكشاف بدلًا من الخوف.

وتحية مفعمة بالامتنان إلى من رعَى تلك الشعلة بحكمته وصبره، الأستاذ القدير محمد رملة في ثانوية واضحة عبد القادر. لقد كان لنا بمثابة الأب المتفهم، يمتلك موهبة نادرة في تبسيط أشد الأمور تعقيدًا، ويؤمن بقدراتنا حتى عندما كنا نشك فيها. بصبره اللامحدود، علمنا أن لكل مشكلة حلاً، وأن الهدوء هو مفتاح التفكير السليم.

إلى هذين القامتين، وإلى كل معلم كان شرارة أو كان صبرًا، أهدي أسمى آيات التقدير والعرفان. فبفضلكم أدركنا أن العلم رحلة تكاملية تبدأ بشعلة الحماس وتستمر برعاية الصبر.

خاتمة: كن النجم الذي صنعه معلمك

في نهاية المطاف، الاحتفال باليوم العالمي للمعلم هو دعوة لننظر إلى المرآة ونسأل أنفسنا: هل كنا انعكاسًا جيدًا لجهد أولئك الذين أفنوا أعمارهم لإنارة طريقنا؟ إن أعظم تكريم نقدمه لمعلمينا هو أن نصبح النسخة الأفضل من أنفسنا، وأن نكون النجوم التي عملوا بجد لتلميعها وإطلاقها إلى الفضاء.

دعوة للنقاش:
شاركنا في التعليقات، ليس فقط بكلمة شكر، بل بقصة "شرارة" أشعلها فيك معلم، وكيف غيرت مسارك. لنجعل من هذا الفضاء معرضًا فنيًا لروائع صانعي النجوم.

محمد بوداني
محمد بوداني
أستاذ متخصص في التاريخ والجغرافيا بخبرة تزيد عن 22 عامًا في ميدان التعليم. مؤلف كتاب "مصباح: أضئ عقلك وحول التعلم إلى مغامرة"، ومؤسس مدونة Taalim Hub ومجتمع مصباح. شغفي هو تبسيط العلوم وجعل التعلم رحلة ممتعة وملهمة. أشارك هنا استراتيجيات عملية وتقنيات حديثة لمساعدة الطلاب وأولياء أمورهم على تحقيق النجاح الدراسي وبناء مستقبل مشرق.
تعليقات