حرية التعبير، الحياة الخاصة، والتربية الرقمية في العصر الرقمي: هل نحن فعلاً أحرار؟

 


في العصر الرقمي، أصبحت حرية التعبير والحياة الخاصة مفاهيم متداخلة تتطلب وعياً ومسؤولية. وهنا يأتي دور التربية الرقمية في تمكين الأفراد من استخدام الفضاء الرقمي بوعي، مع تحقيق التوازن بين حرية التعبير واحترام الخصوصية. فهل نحن فعلاً أحرار في هذا العالم المتصل؟

التعليم ليس مجرد نقل للمعلومات، بل هو فن تحفيز العقول ودفعها للتفكير النقدي، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمواضيع الحساسة التي تلامس الواقع اليومي للتلاميذ. في أحد دروسي حول حرية التعبير واحترام حرمة الحياة الخاصة للسنة الثانية متوسط في مادة التربية المدنية، وجدت نفسي أتنقل بين أمثلة من الواقع، محاولًا شد انتباه التلاميذ وإشراكهم في نقاش.

كان يومًا دراسيًا عاديًا، أو هكذا بدا لي عندما دخلت الفصل. موضوع الدرس حرية التعبير واحترام حرمة الحياة الخاصة وهو موضوع يثير الجدل دائمًا، خاصة في زمن أصبحت فيه الكلمة منشورًا، والصورة "سكرين شوت"، والحقيقة وجهة نظر تختلف باختلاف من يرويها.

قررت أن أبدأ الدرس كما أحب دائمًا، بأمثلة من الواقع، أمثلة تجعل التلاميذ يفكرون، لا يحفظون فقط. "هل سمعتم عن قضية شارلي إيبدو؟" سألتهم. تباينت الإجابات بين من يعرف ومن لم يسمع بها قط. رويت لهم القصة بإيجاز: مجلة فرنسية سخرت من معتقدات الملايين، فنالت انتقادات لاذعة، لكنها دافعت عن نفسها بقولها: "هذه حرية التعبير!" و هذا كان مدخلا لتناول شروط و ضوابط حرية التعبير و هل حرية التعبير هي حرية مطلقة او مقيدة؟

هنا بدأ الجدل. "لكن هل الحرية تعني الإساءة؟"، "أليس من حق أي شخص أن يعبر عن رأيه؟"، "وأين حد الحرية إذن؟"

كنت أبحث عن إجابة معهم، لا لهم. قلت لهم: "تخيل أنك تسخر من شخص أمام الجميع، هل تعتبر ذلك حقًا لك؟ وماذا لو كان هذا الشخص هو أنت؟" الصمت، ثم الهمسات، ثم الابتسامات المترددة. يبدو أنهم بدأوا يفهمون الفكرة.

حين تصبح الحياة الخاصة مادة للنقاش العام

انتقلت إلى مثال آخر، هذه المرة من الجزائر، أكثر قربًا لهم. تحدثت عن الكاتب كمال داوود، الذي كتب عن قصة حقيقية لامرأة جزائرية، دون أن يأخذ إذنها. بعض التلاميذ قالوا: "لقد جعلها مشهورة!"، والبعض الآخر قال: "أمر عادي، الجميع يتحدث عن الجميع."

فألقيت عليهم السؤال الذي غير مسار الحديث: "هل طلب منها الإذن؟"، ثم تابعت: "لو كنت أنت مكانها، هل ترضى أن ينشر شخص قصتك، تفاصيل حياتك، وربما حتى ملفك الطبي، دون استشارتك؟"

هنا تغيرت الوجوه. بدأوا يدركون أن الحياة الخاصة ليست ملكًا عامًا، بل هي حدود يجب احترامها. في عصر مواقع التواصل، أصبح لكل شخص منصة، لكل شخص جمهور، لكن هل فكر أحدهم في العواقب؟ هل فكر أحدهم في أن ما نكتبه عن الآخرين قد يدمر حياتهم؟

التشهير: سلاح مدمر في يد الجميع

أثناء النقاش، سألتني إحدى التلميذات عن معنى التشهير، فأجبتها بسؤال: "تخيلي أن شخصًا كتب عنك منشورًا في فيسبوك، يتهمك بشيء لم تفعليه، بل يطعن في اخلاقك. ماذا سيكون شعورك؟"

توقفت للحظة. نظرت إليّ بعيون متسعة، ثم شردت في صمت. ربما تخيلت الموقف، ربما تذكرت حادثة مشابهة، لا أدري. لكنني كنت متأكدًا أنها فهمت تمامًا معنى التشهير، ليس من خلال تعريف أكاديمي، بل من خلال إحساس شخصي، من خلال وضعها في قلب المشكلة.

بدأ التلاميذ يتحدثون عن حوادث سمعوا عنها، عن منشورات شوهت سمعة أشخاص، عن أخبار كاذبة انتشرت بسرعة، عن قصص انتهت بكوارث فقط لأن أحدهم قرر أن يكتب دون تفكير. لكن لماذا يفعل الناس ذلك؟

هنا، دخلنا في حديث أعمق عن المسؤولية الرقمية، عن كيف أن الهاتف الذي في يدك قد يكون وسيلة للخير أو للشر، عن أن "مجرد منشور" قد يدمر حياة شخص. وأخبرتهم عن أمثلة من الواقع، عن أشخاص انتحروا بسبب شائعات، عن آخرين فقدوا وظائفهم، عن عائلات تفككت بسبب كلمات كتبت بلا تفكير.

الحياة الخاصة: ملكٌ لمن؟

عند الحديث عن الحياة الخاصة، ركزت على أهم عناصرها: المعلومات الشخصية، الرسائل، الملفات الطبية، والمحادثات الخاصة، والصور. عندما وصلت إلى الصورة الشخصية، لاحظت أن الجميع يصغي باهتمام، ربما لأنهم جميعًا يعيشون في عالم السناب شات، والإنستغرام، والتيك توك.

سألتهم: "كم مرة التقطتم صورة لشخص دون علمه؟ كم مرة نشرتم صورة لشخص دون إذنه؟"

بعضهم ابتسم، البعض الآخر تظاهر بالبراءة. لكن عندما أخبرتهم أن القانون يعاقب على هذا الفعل، تغيرت وجوههم. أخبرتهم أن نشر صورة شخص دون إذنه قد يعرضه لمشاكل لا يتخيلونها، من التنمر إلى الابتزاز، بل وحتى السجن في بعض الحالات.

ثم سألتهم السؤال الحاسم: "تخيل أنك في موقف حرج، وفجأة تجد صورتك منتشرة على فيسبوك، دون إذنك، وبطريقة مسيئة. كيف سيكون شعورك؟"

الصمت، ثم التعليقات المترددة، ثم الإدراك البطيء لحجم المشكلة. أحد التلاميذ قال: "لكن هذا يحدث كل يوم، لماذا لا نسمع عن عقوبات؟" هنا شرحت لهم أن كثيرًا من الضحايا لا يعرفون حقوقهم، وبعضهم يخاف من العواقب، لكن ذلك لا يعني أن الفعل ليس جريمة.

ما الذي استخلصته من هذا النقاش؟

1. التلاميذ ليسوا متلقين سلبيين، بل يفكرون ويتفاعلون مع القضايا الواقعية، شريطة أن نطرحها لهم بالطريقة الصحيحة.

2. هناك اعتقاد سائد بأن الإنترنت فضاء بلا قوانين، وأن كل شيء متاح للنشر دون مسؤولية.

3. التشهير وانتهاك الخصوصية أصبحا سلوكًا يوميًا، دون أن يدرك الكثيرون خطورتهما.

4. التربية الرقمية ضرورة ملحة، لأن الجيل الحالي يعيش أكثر في العالم الافتراضي مما يتصور.

لحظة التأمل الأخيرة

عندما انتهى الدرس، شعرت بشيء مختلف. لم يكن مجرد درس عادي، بل كان حوارًا مفتوحًا، تجربة فكرية، لحظة وعي.

هل ستغير هذه المناقشة سلوكهم؟ ربما، وربما لا. لكنني على الأقل أعطيتهم شيئًا للتفكير فيه. ربما في المرة القادمة، عندما يهم أحدهم بكتابة منشور عن شخص آخر، سيتردد قليلاً. ربما عندما يلتقط صورة لأحدهم دون إذنه، سيتساءل: "هل هذا صحيح؟"

وفي زمن أصبحت فيه حياتنا كلها على الشاشات، ربما يكون هذا هو أول درس حقيقي في المسؤولية الرقمية.






إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال